فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (8- 9):

{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)}
وقوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ المهاجرين}: بيان لقوله: {والمساكين وابن السبيل} وكرر لام الجر، لما كانت الجملة الأولى مجرورةً باللام؛ ليبيِّنَ أَنَّ البدل إنَّما هو منها، ثم وصفهم تعالى بالصفة التي تقتضي فقرهم، وتُوجِبُ الشفقة عليهم، وهي إخراجهم من ديارهم وأموالهم {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً}: يريد به الآخرة والجنة: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} أي: في الأقوال والأفعال والنِّيَّاتِ {والذين تَبَوَّءُوا الدار}: هم الأنصار رضي اللَّه عن جميعهم، والضمير في {مِن قَبْلِهِمُ} للمهاجرين، والدار هي المدينة، والمعنى: تبوؤوا الدار مع الإيمان، وبهذا الاقتران يتضح معنى قوله تعالى: {مِن قَبْلِهِمْ} فتأمله، قال * ص *: {والإيمان} منصوب بفعل مُقَدَّرٍ، أي: واعتقدوا الإيمان، فهو من عطف الجمل؛ كقوله: [من الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً

انتهى، وقيل غير هذا، وأثنى اللَّه تعالى في هذه الآية على الأنصار بِأَنَّهُمْ يحبون المهاجرين، وبأَنَّهم يؤثرون على أنفسهم، وبأَنَّهم قد وُقُوا شُحَّ أنفسهم.
* ت *: وروى الترمذيُّ عن أنس قال: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ أَتَاهُ المُهَاجِرُونَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا رَأَيْنَا قَوْماً أَبْذَلَ لِكَثِيرٍ وَلاَ أَحْسَنَ مُوَاساةً في قلِيلٍ مِنْ قَوْمٍ نَزَلْنَا بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ؛ لَقَدْ كَفَوْنَا المَؤُونَةَ، وَأَشْرَكُونَا في الْمِهْنَةِ، حَتَّى لَقَدْ خِفْنَا أَنْ يَذْهَبُوا بِالأَجْرِ كُلِّهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لاَ، مَا دَعَوتُمُ اللَّهَ لَهُمْ وَأَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِمْ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، انتهى، والحاجة: الحسد في هذا الموضع؛ قاله الحسن، ثم يَعُمُّ بعدُ وُجُوهاً، وقال الثعلبيُّ: {حَاجَةً} أي: حَزَازَةً، وقيل: حسداً {مِّمَّا أُوتُواْ} أي: مما أعطي المهاجرون من أموال بَنِي النضير والقرى، انتهى.
وقوله تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ}: صفة للأنصار، وجاء الحديث الصحيح من غير ما طريق، أَنَّها نزلت بسبب رجل من الأنصار وصنيعه مع ضيفِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؛ إذْ نَوَّمَ صبيانه، وَقَدَّمَ للضيف طعامَه، وأطفأتْ أهلُه السراجَ، وأوهما الضيفَ أَنَّهُمَا يأكلان معه، وباتا طاويين؛ فلمَّا غدا الأنصاريُّ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال له: «لَقَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ فِعْلِكُمَا الْبَارِحَةَ» ونزلت الآية في ذلك، قال صاحب سلاح المؤمن: الرجل الأنصاريُّ الذي أضاف هو، أبو طلحة انتهى، قال الترمذيُّ الحكيم في كتاب ختم الأولياء له: حدثنا أبي قال: حدثنا عبد اللَّه بن عاصم: حدثنا الجمانيُّ: حدثنا صالح المُرِّيُّ عن أبي سعيد الخُدْرِيِّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّ بُدَلاَءَ أُمَّتِي لَمْ يَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلاَ صَلاَةٍ؛ إنَّما دَخَلُوهَا بِسَلاَمَةِ الصُّدُورِ، وَسَخَاوَةِ الأَنْفُسِ، وَحُسْنِ الخُلُقِ، والرَّحْمَةِ بِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ» انتهى، والإيثار على النفس أكرم خلق، قال أبو يزيد البسطاميُّ: قدم علينا شاب من بَلْخٍ حاجًّا فقال لي: ما حَدُّ الزهد عندكم؟ فقلت: إذَا وَجَدْنَا أَكَلْنَا، وَإذَا فَقَدْنَا صَبَرْنَا، فقال: هكذا عندنا كلابُ بلخ! فقلت له: فما هو عندكم؟! فقال: إذا فقدنا صَبْرَنَا، وَإذَا وجدنا آثرنا، ورُوِيَ أَنَّ سبب هذه الآيةِ أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، لَمَّا فَتَحَ هذه الْقُرَى قَالَ لِلاٌّنْصَارِ:
«إنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكْمْ وَدِيَارِكُمْ؛ وَشَارَكْتُمُوهُمْ في هذه الْغَنِيمَةِ، وَإنْ شِئْتُمْ أَمْسَكْتُمْ أَمْوَالَكُمْ وَتَرَكْتُمْ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ، فَقَالُوا: بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا، وَنَتْرُكُ لَهُمْ هذه الغَنِيمَةَ»، فنزلت الآية، والخصاصة: الفاقَةُ والحاجةُ، وشُحُّ النفس: هو كثرةَ طَمَعِهَا. وضبطها على المال، والرغبةُ فيه، وامتدادُ الأمل؛ هذا جماع شُحِّ النفس. وهو داعية كُلِّ خلق سوء، وقد قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَدَّى الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَقَرَى الضَّيْفَ، وَأَعْطَى في النَّائِبَةِ فَقَدْ بَرِئ من الشُّحِّ»، وَإلى هذا الذي قلناه ذهب الجمهور والعارفون بالكلام، وقيل في الشح غير هذا، قال * ع *: وشُحُّ النفس فَقْرٌ لا يذهبه غِنَى المالِ، بل يزيده، وينصب به؛ و{يُوقَ} مِنْ وقى يَقِي، وقال الفخر: اعلم أَنَّ الفرق بين الشُّحِّ والبخل هو أَنَّ البخل نفس المنع، والشُّحُّ هو الحالة النفسانية التي تقتضي ذلك المَنْعَ، ولَمَّا كان الشُّحُّ من صفات النفس لا جَرَمَ، قال اللَّه تعالى: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المفلحون} أي: الظافرون بما أرادوا، قال ابن زيد: من لم يأخذ شيئاً نهاه اللَّه عن أخذه، ولم يمنع شيئاً أمره اللَّه تعالى بإعطائه فقد وُقِيَ شُحَّ نفسه، انتهى.

.تفسير الآيات (10- 14):

{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14)}
وقوله تعالى: {والذين جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ...} الآية: قال جمهور العلماء: أراد مَنْ يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة، وقال الفرَّاءُ: أراد الفرقة الثالثة من الصحابة، وهي مَنْ آمن في آخر مُدَّةِ النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {يَقُولُونَ}: حال فيها الفائدة، والمعنى: والذين جاؤوا قائلين كذا، وروت أُمُّ الدرداء، وأبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كان يقول: «دَعْوَةُ المُسْلِمِ لأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مَوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأَخِيهِ قَالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ، وَلَكَ مِثْلُهُ» رواه مسلم، انتهى، قال * ع *: ولهذه الآية قال مالك وغيره: إِنَّه مَنْ كان له في أحدٍ من الصحابة رأيُ سوءٍ أو بغض، فلا حَظَّ له في فَيْءِ المسلمين، وقال عبد اللَّه بن يزيد: قال الحسن: أدركت ثلاثمائةٍ مِنْ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم سبعون بَدْرِيًّا كُلُّهم يحدثني أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الإسْلاَمِ مِنْ عُنُقِهِ» فالجماعة أَلاَّ تَسُبّوا الصحابة، ولا تماروا في دينِ اللَّه، ولا تُكَفِّرُوا أَحداً من أَهْلِ التوحيد بذنب، قال عبد اللَّه: فَلَقِيتُ أبا أمامة وأبا الدرداء وواثلةَ وأَنَساً، فكلُّهم يحدثني عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث الحسن، والغِلُّ: الحقد والاعتقاد الرديء.
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ...} الآية: نزلت في عبد اللَّه بن أُبَيِّ ابن سلول، ورفاعةَ بن التابوت وقومٍ من منافقي الأنصار؛ كانوا بعثوا إلى بني النضير، وقالوا لهم: اثبتوا في معاقلكم، فإنَّا مَعَكُمْ كيفما تقلبت حالُكم، وكانوا في ذلك كاذبين، وإنَّما أرادوا بذلك أَنْ تقوى نُفُوسُهُمْ؛ عسى أَنْ يثبتوا حَتَّى لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، فيتمَّ مرادهم، وجاءت الأفعال غيرَ مجزومة في قوله: {لاَ يَخْرُجُونَ} {لاَ يَنصُرُونَهُم}؛ لأَنَّها راجعةٌ إلى حكم القسم، لا إلى حكم الشرط، والضمير في {صُدُورِهِم} يعود على اليهود والمنافقين، والضمير في قوله: {لاَ يقاتلونكم جَمِيعاً} لبني النضير وجميع اليهود، هذا قول جماعة المفسرين، ومعنى الآية: لا يبرزون لحربكم، وإنَّما يقاتلون متحصنين بالقُرَى والجدران؛ للرعب والرهب الكائن في قلوبهم.
وقوله تعالى: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أي: في غائلتهم وإحَنِهِمْ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} أي: مجتمعين {وَقُلُوبُهُمْ شتى} أي: متفرقة؛ قال * ع *: وهذه حال الجماعة المتخاذلة، وهي المغلوبةُ أبداً في كُلِّ ما تحاول، واللفظة مأخوذة من الشتات، وهو التفرق ونحوه.

.تفسير الآيات (15- 17):

{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)}
وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ} قال ابن عباس: همْ بنو قينقاع، لأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم أجلاهم عن المدينة قبل بني النضير، والوَبَالُ: الشِّدَّةُ والمكروه، وعاقبة السوء والعذاب الأليم: هو في الآخرة.
وقوله سبحانه: {كَمَثَلِ الشيطان} معناه: أَنَّ هاتينِ الفرقتين من المنافقين وبني النضير، كمثل الشيطان مع الإنسان؛ فالمنافقونَ مَثَلُهُمُ الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان، وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أَنَّ الشيطانَ والإنسانَ في هذه الآية اسما جنس، فكما أَنَّ الشيطان يغوي الإنسان، ثم يَفِرُّ عنه بعد أَنْ يُوَرِّطَهُ؛ كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحَرَّضُوهم على الثبوت، ووعدوهم النصرَ، فَلَمَّا نَشَبَ بنو النضير، وكشفوا عن وجوههم تركهم المنافقون في أسوأ حال، وذهب قوم من رواة القصص إلى أَنَّ هذا في شيطانٍ مخصوصٍ مع عابد مخصوص، اسمه بَرْصِيصَا، اسْتُودِعَ امرأة جميلةً، وقيل: سِيقَتْ إليه لِيَشْفِيهَا بدعائه من الجنون، فَسَوَّلَ له الشيطانُ الوقوعَ عليها، فحملت منه، فَخَشِيَ الفضيحة، فسَوَّلَ له قَتْلَهَا وَدَفْنَهَا، ففعل، ثم شَهَّرَهُ، فَلَمَّا اسْتُخْرِجَتِ المرأة، وحُمِلَ العابدُ شَرَّ حَمْلٍ، وَصُلِبَ جَاءَهُ الشيطانُ فَقَالَ له: اسجد لي سجدةً وأنا أُخَلِّصُكَ، فسجد له، فقال له الشيطان: هذا الذي أردتُ منك أَنْ كفرتَ بربك، إنِّي بريء منك، فضرب اللَّه تعالى هذا المَثَلَ ليهودِ بني النضير والمنافقين، وهذا يحتاج إلى صِحَّةِ سَنَدٍ، والتأويل الأول هو وجه الكلام.
* ت *: قال السهيلي: وقد ذكر هذه القصةَ هكذا القاضي إسماعيلُ وغيره من طريق سفيان عن عمرو بن دينار، عن عُرْوَةَ بنِ عَامِرِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ رِفَاعَةَ الزُّرْقِيِّ، عنِ النبي صلى الله عليه وسلم: «أنَّ رَاهِباً كَانَ في بَنِي إسرائيل» فذكر القصة بكمالها، ويقال: إنَّ اسمَ هذا الراهب بَرْصِيصَا، ولم يذكر اسمه القاضي إسماعيل، انتهى، قال * ع *: وقول الشيطان: {إِنِّى أَخَافُ الله} رياءً من قوله، وليست على ذلك عقيدته، ولا يعرف اللَّه حَقَّ معرفته، ولا يحجزه خوفُه عن سُوءٍ يوقع فيه ابنَ آدم من أول إلى آخر {فَكَانَ عاقبتهما} يعني: الشيطان والإنسان على ما تقدم من حملهما على الجنس أو الخصوص.

.تفسير الآيات (18- 20):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
وقوله سبحانه {ياأيها الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ...} الآية: هذه آية وعظ وتذكير، وتقريبٍ للآخرة، وتحذيرٍ مِمَّنْ لا تخفى عليه خافيةٌ، وقوله تعالى: {لِغَدٍ}: يريد يوم القيامة، والذين نسوا اللَّه: هم الكفار، والمعنى: تركوا اللَّه وغفلوا عنه، حَتَّى كانوا كالناسين، فعاقبهم بأَنْ جعلهم ينسون أنفسهم، وهذا هو الجزاء على الذنب بالذنب، قال سفيان: المعنى: حَظَّ أنفسهم، ويُعْطِي لفظُ الآية أَنَّ مَنْ عرف نفسه ولم يَنْسَهَا عَرَفَ رَبَّهُ تعالى، وقد قال عليُّ بن أبي طالب، رضي اللَّه عنه: اعْرِفْ نفسك تَعْرِفْ ربك، وروي عنه أَيضاً أَنَّه قال: مَنْ لم يعرفْ نفسه، لم يعْرف ربه.

.تفسير الآيات (21- 24):

{لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)}
وقوله سبحانه: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءان على جَبَلٍ...} الآية: موعظةٌ للإنسان، وَذَمٌّ لأخلاقه وإعراضه وغفلته عن تَدَبُّرِ كلام خالقه، وإذا كان الجبلُ، على عِظَمِهِ وقُوَّتِهِ، لو أُنْزِلَ عليه القرآن وفَهِمَ منه ما فَهِمَهُ الإنسان، لخشع واستكان، وتصدَّع، خشيةً للَّه تعالى: فالإِنسانُ على حقارته وضَعْفِهِ أولى بذلك، وضرب اللَّه سبحانه هذا المثل؛ ليتفكر فيه العاقلُ، ويخشعَ ويلينَ قلبُهُ.
وقوله سبحانه: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم} الآية: لما قال تعالى: {مِّنْ خَشْيَةِ الله}، جاء بالأوصاف العَلِيَّةِ التي تُوجِبُ لمخلوقاته هذه الخشيةَ، وقرأ الجمهور: {القُدُّوسُ} بضم القاف؛ من تَقَدَّسَ إذا تطهَّرَ وتنزَّه.
وقوله: {السلام} أي: ذو السلام؛ لأَنَّ الإيمان به وتوحيدَه وأفعاله هي لمن آمنَ سلام كُلُّها، و{المؤمن}: اسم فاعل من آمن بمعنى أمن من الأمن، وقيل: معناه: المُصَدِّقُ عبادَهُ المؤمنين، و{المهيمن}: معناه: الحفيظ والأمين؛ قاله ابن عباس، و{الجبار}: هو الذي لا يدانيه شيءٌ، ولا تُلْحَقُ رتبته، قال الفخر: وفي اسمه تعالى: {الجبار} وجوه:
أحدها: أَنَّه فَعَّالٌ؛ من جَبَرَ إذا أغنى الفقيرَ وجبر الكسير.
والثاني: أنْ يكون الجبار من جَبَرَهُ إذا أكرهه؛ قال الأزهريُّ: وهي لغة تميم، وكثيرٌ من الحجازيين يقولونها بغير ألف في الإكراه، وكان الشافعيُّ رحمه اللَّه يقول: جَبَرَهُ السلطانُ على كذا بغير ألف، وجعل الفرَّاءُ {الجبار} بهذا المعنى من أجبر بالألف، وهي اللغة المعروفة في الإكراه، انتهى، و{المتكبر}: معناه: الذي له التكبُّرُ حَقًّا و{البارئ} بمعنى: الخالق، و{المصور}: هو الذي يوجد الصورَ، وباقي الآية بَيِّنٌ، وروى مَعْقِلُ بن يسار عنِ النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّه قال: «مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ ثَلاَثَ آياتٍ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ: وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ، حَتَّى يُمْسِي، وَإنْ مَاتَ في ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيداً، وَمَنْ قَالَهَا حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتَلْكَ الْمَنْزِلَةِ» رواه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، انتهى.

.تفسير سورة الممتحنة:

وهي مدنية بإجماع.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)}
قوله عز وجل: {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّى وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ...} الآية: المراد بالعدو ههنا: كُفَّارُ قريش، وسبب نزول هذه الآية حَاطِبُ بْنُ أبي بَلْتَعَةَ؛ وذلك أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أرادَ الخروجَ إلى مَكَّةَ عامَ الحديبية.
* ت *: بل عام فتح مَكَّةَ، فكتب حاطبٌ إلى قوم من كُفَّارِ مَكَّةَ يخبرهم بقصد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ولم يكن ذلك منه ارتداداً، فنزل الوحي مخبراً بما صنع حاطبٌ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا والزبيرَ وثالثاً قيل هو المقداد وقال: انطلقوا حَتَّى تأتُوا روضة خاخ، فإنَّ بها ظغينةً معها كتابٌ من حاطبٍ إلى المشركين، فخذوه منها، وخَلُّوا سبيلها، فانطلقوا حَتَّى وجدوا المرأة، فقالوا لها: أَخْرِجِي الكتابَ، فقالت: ما معي كتاب! ففتشوا رحلها فما وجدوا شيئاً فقال عليٌّ: ما كَذَبَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا كُذِّب، واللَّهِ، لَتُخْرِجِنَّ الكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِينَّ الثِّيَابَ، فقالَتْ: أَعْرِضُوا عَنِّي، فَحَلَّتْهُ مِنْ قُرُونِ رَأْسِهَا، فجاؤوا بِهِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لِحَاطِبٍ: «مَنْ كَتَبَ هَذَا؟» فَقَالَ: أنا يا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «مَا حَمَلَكَ على مَا صَنَعْتَ؟» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ تَعْجَلْ عَليّ فَواللَّهِ، مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ، وَمَا فَعَلْتُ ذَلِكَ. ارتدادا عَن دِينِي وَلاَ رَغْبَةً عَنْهُ؛ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ إلاَّ وَلَهُ بِمَكَّةَ مَنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَكُنْتُ امرأ مُلْصَقاً فِيهِمْ، وَأَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانِيهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَيْهِمْ فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عَنْدَهُمْ يَداً، فَصَدَّقَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وقال: «لاَ تَقُولُوا لِحَاطِبٍ إلاَّ خَيْراً» وروي أَنَّ حاطباً كَتَبَ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ غَزْوَكُمْ في مِثْلِ اللَّيْلِ وَالسَّيْلِ، وَأُقْسِمُ بِاللَّهِ، لَوْ غَزَاكُمْ وَحْدَهُ، لَنُصِرَ عَلَيْكُمْ، فَكَيْفَ وَهُوَ في جَمْعٍ كَثِيرٍ؟! * ص *: و{تُلْقُونَ} مفعوله محذوف، أي: تلقون إليهم أخبارَ الرسول وأسراره، و{بالمودة}: الباء للسبب، انتهى.
وقوله تعالى: {أَن تُؤْمِنُواْ}: مفعول من أجله، أي: أخرجوكم من أجل أنْ آمنتم بربكم.
وقوله تعالى: {إِن كُنتُمْ}: شرط، جوابُهُ متقدم في معنى ما قبله، وجاز ذلك لما لم يظهر عمل الشرط، والتقدير: إنْ كنتم خرجتم جهاداً في سبيلي وابتغاءَ مرضاتي، فلا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياءَ، و{جِهَاداً} منصوب على المصدر، وكذلك {ابتغاء} ويجوزُ أنْ يكونَ ذلك مفعولاً من أجله، والمرضاة: مصدر كالرضى و{تُسِرُّونَ} حال من {تُلْقُونَ}، ويجوز أنْ يكون في موضع خبر ابتداء، كأَنَّهُ قال: أنتم تُسِرُّونَ، ويَصِحُّ أنْ يكون فعلاً ابتدئ به القول.
وقوله تعالى: {أَعْلَمُ} يحتمل أنْ يكون أفعل، ويحتمل أنْ يكون فعلاً؛ لأَنَّكَ تقول: علمت بكذا فتدخل الباء.
* ص *: والظاهر أَنَّه أفعل تفضيل؛ ولذلك عُدِّيَ بالباء، انتهى، و{سَوَآءَ} يجوز أنْ يكون مفعولاً ب {ضَلَّ} على تعدي ضل، ويجوز أنْ يكون ظرفاً على غير التعدي؛ لأَنَّهُ يجيء بالوجهين، والأوَّلُ أحسن في المعنى، والسواء: الوسط، و{السبيل}: هنا شرع اللَّه وطريقُ دينه.